الثلاثاء، 15 ديسمبر 2009

بعد المدن الاقتصادية .. هل نبدأ تخصص مدننا؟

د. عبد الله إبراهيم الفايز

تعد فكرة المدن التخصصية مثل المدن الاقتصادية أو المعرفية طابعا وتحولا حديثا لشخصية المدن, وهي ظاهرة نشهدها في المملكة. ولكن ماذا عن إعادة تخصيص المدن الحالية مثل الرياض والدمام وجدة؟ معظم مدن العالم المتقدم تتميز بوجود مدن تخصصية لها طابع خاص وشخصية معتبرة تنم عن مستوى حضارة سكانها ومدى تمدنهم وثقافتهم بين مصاف الحضارات الأخرى.

في الولايات المتحدة هناك سان فرانسيسكو كعاصمة البنوك (مركز مالي) في الغرب ونيويورك في الشرق. بينما العاصمة واشنطن هي العاصمة الإدارية. ثم يصبح لكل مدينة أخرى تخصصها مثل هوليوود ولاس فيجاس وغيرهما. وكذلك الحال في بعض الدول الأوروبية فنجد عاصمة ألمانيا بون وسويسرا بيرن هي مدن صغيرة إدارية فقط بينما فرانكفورت أو زيورخ هي المالية.

وهذه المدن في معظمها تكون خاضعة لتخطيط قومي شامل ويتم ترتيب كل مدينة داخل البلاد على أساس تدرج هرمي من المدن الكبيرة إلى المدن الصغيرة والقرى. وبحيث يتم توزيع جميع الأنشطة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والصناعية والتعليمية, ويكون ذلك بنسب متفاوتة بين المدن. وبذلك تضمن الدولة تكامل وتجانس النسيج الحضري وإيجاد اتزان في توزيع السكان وفرص العمل والأنشطة وتوزيع الدخل.

ويبرز من هذا النسيج المدن الكبيرة, وهي غالباً ما تكون العواصم السياسية أو التجارية أو المالية أو التاريخية والدينية وليس جميعها في وقت واحد.

وبينما تمتلك مدننا في العالم العربي ومنطقة الخليج العربي هذه الميزة التخصصية سواء السياسية أو التجارية أو الدينية أو السياحية, إلا أن الملاحظ أن التخصصية والاهتمام بالتركيب الداخلي والنمط العمراني المتميز لكل مدينة حسب طابعها ما زال مفقوداً وما زال يعاني إرهاصات وتركات ومشكلات العشوائية السابقة منذ خروج المستعمرين, الذي نام العرب بعده ذهنيا واقتصاديا أو تلاشي الوفرة العقارية في الخليج العربي الذي دهمت إمكانات رجال المدن بغفلة ومن دون سابق إنذار.

وبقيت هياكل المدن ونمطها ونسيجها مهمل كالأطلال الخاوية. ومدن الخليج العربي خاصة هي أهم المدن التي تعاني فقدان طابعها, فهي مطلوب منها أن تكون سياسية وإدارية وتجارية ومركز مالي واقتصادي وتاريخي, وقد تكون صناعية, وكل ذلك في وقت واحد. وهذا أمر يصعب ويستحيل على المدينة تحمله.

لذلك فإن مدننا في المملكة والدول العربية حالها حال العالم الثالث تعاني ما يسميه المخططون ظاهرة الأولوية الأساسية Primacy, وهي وجود مدينة واحدة كبيرة فقط في الدولة هي مركز الكثافة السكنية والتجمع الكبير للأنشطة والسكان والجذب مسيطرة على كل المدن وتستمر بقية المدن في الاندثار. مثل القاهرة في مصر ودمشق في سورية والرياض في السعودية. وهي موجودة أيضا في بقية دول العالم الثالث مثل دلهي في الهند وريو في البرازيل ومدينة المكسيك في المكسيك.

ولم تحظ المدن القديمة في الدول العربية مثل سورية ومصر والأردن وكذلك المدن الحديثة في الخليج العربي التي يعد بعضها حديثة الولادة أو التضخم، بحكمة الإخلاص والتآخي والتكاتف والتنسيق بين من يحاولون تخطيطها أو معالجتها وأصبحت كالإنسان المريض الذي يتلقى العلاج من عدة أطباء كل يعطي ترياقه دون أي تنسيق أو تخطيط. حيث إن كل مهندس أو مختص أو جهة حكومية أو بلدية تعمل في معزل عن الأخرى أو حتى بمعزل عن بقية إداراتها وفي محاولات بائسة لمعالجة الوضع من دون أي اعتبار لإعطاء المخطط دوره.

إن النظريات التخطيطية في معظمها وتجارب من سبقنا تؤكد أن تحديد وتخصيص نمو المدن هو الحل لمشكلات النمو الفاحش للمدن فوق طاقاتها أو ما تملكه من مقومات. ولعلنا أخذنا الدرس من الأحداث الإرهابية الأخيرة في العالم العربي أو القديمة مثل حي الباطنية في القاهرة, فالنمو الفاحش يؤدي إلى تفكك المجتمع وكثرة الفساد الاجتماعي وقلة فرص العيش وتفشي البطالة والجريمة إلى حدود لا تمكن رجال الأمن من السيطرة على مجريات الأمور, والأمثلة على ذلك دوليا كثيرة.

ومن هذا المنطلق دأب علماء التخطيط والمسؤولون في تلك الدول إلى إيجاد واستحداث حلول ونظريات تخطيطية مناسبة للحد من نمو المدن العشوائي بحيث تتم المحافظة على حد لنمو المدن. ومن هذه النظريات تأتي نظرية ''مناطق النمو العكسي و''بؤر النمو خارج المدن'' ‎ وأبرز مثال طبق لها في العاصمة البرازيلية مدينة برازيليا ومدن الحدائق حول لندن.

ولست هنا أدعو إلى محاكاة الغرب ونظرياته التي قد لا تناسب مجتمعنا وإنما أدعو إلى إعادة النظر في موضوع النمو وتداركه قبل أن يخرج الأمر من أيدينا وأن نحاول أن نستفيد ولو بقليل من تاريخ وتجارب المدن التي سبقتنا وتورطت في هذا المجال.

إن النمو الحضري و السكاني من أهم المشكلات التي تواجه الشعوب ويجب أن نحاول التحكم فيها قبل أن تلتهمنا, فالنمو يحتاج إلى مقومات وتكاليف أبدية تضمن العيش الشريف للأجيال المقبلة. لذلك فإن ما نسمعه عن نمو مدننا سكانيا الذي نعرف أنه سيتضاعف قريباً يجب أن يتواكب مع مقومات المدينة وما يمكن أن تقدمه مستقبلاً من ثروات مائية وزراعية واقتصادية لسكانها على المدى البعيد.

فماذا أعددنا للمشكلات المستقبلية الحتمية من جراء هذا النمو. ودون معرفة حجم ومدى هذه المقومات ومدى بقائها للعصور المقبلة فإنه من الأفضل الوقوف عند حد نموذجي معين من النمو وبطابع تخصصي.

ومحاولة تحويل التخصصات أو القواعد الاقتصادية الأخرى إلى المدن المجاورة وتقليل نسبة الهجرة من القرى إلى المدينة, وذلك بعدم السماح بفتح معاهد تقنية أو جامعات وتحويرها إلى المدن أو القرى الأخرى وجعلها نواة لمدن جامعية يمكنها النمو ذاتيا, أو التشجيع على نقل بعض المؤسسات الكبيرة الخاصة التي من الأولى أن تسهم في نمو مدن أخرى مثل مدن صناعية أو تحويل بعض الجامعات والمصانع الوطنية إلى القرى المجاورة.

إننا في أمس الحاجة إلى إدراك المفهوم والمعنى الحقيقي للتخطيط كعلم قائم بذاته يضع العمود الفقري الذي يربط وينسق بين السياسات المختلفة بدلا من اتخاذ قرارات وسياسات منعزلة ومتضاربة مع بعضها الآخر.

فإن أي قرار اقتصادي يجب أن يدرس في ضوء تأثيراته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بدلا من الارتجالية في القرارات والسماح للفردية في القرارات من مختصين ليس لديهم النظرة الشمولية للتخطيط وأبعاده, وهو ما يطرح التساؤل عن دور بعض المسؤولين في الوظائف التخطيطية ومدى مناسبتهم لفهم واستيعاب مفهوم التخطيط ومدى احترامهم واستفادتهم من مجهودات الكفاءات التخطيطية الوطنية ومحاولة تشجيعها.

التخطيط علم حديث وشامل لجميع العلوم, والمخطط هو إنسان درس جميع التخصصات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والجغرافية التي تهم صلب التخطيط, وبذلك فإنه من الصعوبة على إنسان ليس لديه إلا تخصص واحد كأن يكون مهندسا أو اقتصاديا أو سياسيا أن يقوم بتنظيم ومحاولة إشراك مختلف القطاعات العامة والخاصة ممثلة في مسؤولين حكوميين وماليين واستثماريين وعقاريين للإسهام في صنع القرار التخطيطي المصيري لمدننا ومستقبل سكانها للـ 20 سنة أو أكثر المقبلة ومعرفة أبعاد حيثيات التخطيط. أو أن يعطينا الإجابات الشافية لجميع مشكلات التخطيط التي سبق أن تطرقنا لها في موضوعات سابقة التي تشمل البحث عن الحلقة المفقودة والالتباس الحاصل بين تفهمنا الفرق بين التخطيط الحضري والعمراني (ممثل في الوزارات والهيئات البلدية والقروية) أو التخطيط الوطني (ممثلا في وزارات أو هيئات التخطيط)، أو تساؤلاتنا المتعددة عن مستقبل تخطيط المدينة.

إضافة إلى الحاجة الماسة إلى إعادة النظر في طريقة طرح المخططات ودراسة أنظمة واشتراطات البناء والارتفاعات. وأسئلة أخرى كثيرة كلها تنتظر الولادة المتعثرة لاستيعابنا فكرة أن التخطيط هو علم مهم وشامل وأن نوقف الآخرين عن الإفتاء والادعاء جهلاً بأنهم يعلمون.

وأحد الحلول لمحاربة الجريمة هو أن يتم من الآن الحد من تضخم المدن الكبرى والتحول إلى المدن التخصصية بصبغة واحدة إما إدارية بحته أو صناعية أو مالية أو سياحية... فقد انتهت موضة التنافس حول من يملك مدنا وحاضرات كبيرة ومكتظة بالسكان وثبت للجميع ومن تجارب الآخرين أن النمو وتضخم المدن قلما كان مطلبا حضاريا.

وأن التاريخ والنظريات الحديثة في التخطيط تؤكد أن لكل مدينة في العالم حجم وحدود ملائمة للنمو تتناسب مع مقوماتها ويجب ألا تتعداها. وأن تملك بعض المقومات الاقتصادية أو الطبيعية الدائمة التي تؤمن احتياجات سكانها على مر العصور.

وأحد أهم الحلول هو خلخلة القاعدة الاقتصادية للمدينة بنقل بعض الاقتصادات التي تنمو عليها الخدمات. مثل نقل مقر بعض الشركات الكبرى وخاصة الصناعية إلى مدن صناعية تستحدث لهذا السبب مع مراعاة دراسة موقعها تخطيطيا ونقل بعض الجامعات والمعاهد أو نقل بعض أجهزة الوزارة الدفاعية والأمنية إلى حدود الدولة. نقل مثل هذه الأنشطة الاقتصادية يؤدي إلى نقل موظفيها والعاملين في الخدمات التي توجدها من بقالات ومغاسل وبنوك محطات... إلخ.

وهنا يطرح السوأل نفسه: هل نمو المدن فوق طاقتها مطلب حضاري نسمو إليه؟ أم أننا في حاجة إلى التخصصية, وذلك باتباع سياسة التنمية المتزنة وإعطاء المدن والقرى الأخرى دورها بجعلها مناطق جذب لتقليل زحف السكان من القرى إلى المدن. ومحاولة المحافظة على حجم معين لكل مدينة بجعلها متميزة أو تخصصية لجذب تخصصات معينة من الاقتصاد والسكان. وذلك عن طريق توزيع القواعد الاقتصادية التي تفرز الوظائف والخدمات لتشجيع الهجرة مرة أخرى للمدن المجاورة (نظرية IN Put-outPut Model).

*نقلا عن صحيفة الاقتصادية السعودية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق